الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا" مَنْ يَصِرْ يَا مُحَمَّدُ شَفْعًا لِوِتْرِ أَصْحَابِكَ فَيَشْفَعُهُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَقِتَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ – وَهُوَ "الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَة" " يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا "يَقُولُ: يَكُنْ لَهُ مِنْ شَفَاعَتِهِ تِلْكَ نَصِيبٌ- وَهُوَ الْحَظُّ- مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ وَجَزِيلِ كَرَامَتِهِ." وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً "يَقُولُ: وَمَنْ يَشْفَعْ وِتْرَ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَيُقَاتِلُهُمْ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ هُو" الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ " " يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ". يَعْنِي: بـ "الْكِفْلِ ": النَّصِيبُ وَالْحَظُّ مِنَ الْوِزْرِ وَالْإِثْمِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِن" كِفْلِ الْبَعِيرِ وَالْمَرْكَبِ "، وَهُوَ الْكِسَاءُ أَوِ الشَّيْءُ يُهَيَّأُ عَلَيْهِ شَبِيهَ بِالسَّرْجِ عَلَى الدَّابَّةِ. يُقَالُ مِنْهُ: جَاءَ فُلَانٌ مُكْتَفِلًا إِذَا جَاءَ عَلَى مَرْكَبٍ قَدْ وُطِّئَ لَهُ- عَلَى مَا بَيَّنَّا- لِرُكُوبِهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا" الْآيَةَ شَفَاعَةَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ عُمَّ بِذَلِكَ كُلُّ شَافِعٍ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا قُلْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا بِحَضِّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ لِمَنْ أَجَابَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْوَعِيدِ لِمَنْ أَبَى إِجَابَتَهُ أَشْبَهَ مِنْهُ مِنَ الْحَثِّ عَلَى شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، الَّتِي لَمْ يَجِرِ لَهَا ذِكْرٌ قَبْلُ، وَلَا لَهَا ذِكْرٌ بَعْدُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي شَفَاعَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَة" قَالَ: شَفَاعَةُ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَنْ يُشَفَّعُ شَفَاعَةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرَانِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: " {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}: وَلَمْ يَقِلْ " يُشَفَّعْ ". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَة" كُتِبَ لَهُ أَجْرُهَا مَا جَرَتْ مَنْفَعَتُهَا. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: " {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا "} قَالَ: الشَّفَاعَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي يَشْفَعُ فِيهَا وَعَمِلَ بِهَا هِيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، هُمَا فِيهَا شَرِيكَانِ "وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا" قَالَ: هُمَا شَرِيكَانِ فِيهَا، كَمَا كَانَ أَهْلُهَا شَرِيكَيْنِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: الْكِفْلُ النَّصِيبُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}: أَيْ حَظٌّ مِنْهَا، " وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا "، وَالْكِفْلُ: هُوَ الْإِثْمُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: "يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا" أَمَّا "الْكِفْل" فَالْحَظُّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: "يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا" قَالَ: حَظٌّ مِنْهَا، فَبِئْسَ الْحَظُّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "الْكِفْلُ وَالنَّصِيب" وَاحِدٌ. وَقَرَأَ: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [سُورَةُ الْحَدِيدِ: 8].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهُ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظًا وَشَهِيدًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {" وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا "} يَقُولُ: حَفِيظًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "مُقِيتًا" شَهِيدًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ اسْمُهُ مُجَاهِدٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "مُقِيتًا" قَالَ: شَهِيدًا، حَسِيبًا، حَفِيظًا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} قَالَ: الْمُقِيتُ الْحَسِيبُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالتَّدْبِيرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} قَالَ: الْمُقِيتُ: الْوَاصِبُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْقَدِيرُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}: أَمَّا الْمُقِيتُ فَالْقَدِيرُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} " قَالَ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، الْمُقِيتُ: الْقَدِيرُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى "الْمُقِيت" الْقَدِيرُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يُذْكَرُ كَذَلِكَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَيُنْشَدُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَذِي ضِغْـنٍ كَـفَفْتُ النَّفْسَ عَنْـهُ *** وَكُـنْتُ عَـلَى مَسَـاءتِهِ مُقِيتَـا أَيْ: قَادِرًا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مِنْهُ قَوْلَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يُقِيت» ". فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهَا: "يُقِيت" يَعْنِي: مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدَيْهِ وَفِي سُلْطَانِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، فَيَقْدِرُ لَهُ قُوتَهُ. يُقَالُ مِنْهُ: أَقَاتَ فُلَانٌ الشَّيْءَ يُقِيتُهُ إِقَاتَةً، وَقَاتَهُ يَقُوتُهُ قِيَاتَةً وَقُوتًا، وَالْقُوتُ الِاسْمُ. وَأَمَّا الْمُقِيتُ فِي بَيْتِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ: لَيْـتَ شِـعْرِي، وَأَشْـعُرَنَّ إِذَا مَـا *** قَرَّبُوهَـا مَنْشُـورَةً وَدُعِيـتُ! أَلِـي الْفَضْـلُ أَمْ عَـلَيَّ إِذَا حُوسِـبْتُ؟ *** إِنِّـي عَـلَى الْحِسَـابِ مُقِيـتُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَإِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مَوْقُوفٌ، وَهُوَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِقَوْلِهِ {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: "وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّة" إِذَا دُعِيَ لَكُمْ بِطُولِ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ وَالسَّلَامَةِ "فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا "، يَقُولُ: فَادْعُوا لِمَنْ دَعَا لَكُمْ بِذَلِكَ بِأَحْسَنِ مِمَّا دَعَا لَكُمْ أَوْ رُدُّوهَا" يَقُولُ: أَوْ رُدُّوا التَّحِيَّةَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ "التَّحِيَّة" الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِمَّا حُيِّيَ بِهِ الْمُحَيَّا، وَالَّتِي هِيَ مُثْلُهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْهَا: أَنْ يَقُولَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ": وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَيَزِيدُ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي لَهُ. وَالرَّدُّ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ مِثْلُهَا. كَمَا قِيلَ لَهُ، أَوْ يَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، فَيَدْعُو لِلدَّاعِي لَهُ مِثْلَ الَّذِي دَعَا لَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}: يَقُولُ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكَ أَحَدٌ فَقُلْ أَنْتَ: "وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ "، أَوْ تَقْطَعُ إِلَى" السَّلَامُ عَلَيْكَ " كَمَا قَالَ لَكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَوْلَهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} قَالَ: فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقِ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَرُدُّ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كَمَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَرُدُّ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَرُدُّ: وَعَلَيْكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، أَوْ رُدُّوهَا عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَارْدُدْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا}: لِلْمُسْلِمِينَ "أَوْ رُدُّوهَا" عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} لِلْمُسْلِمِينَ "أَوْ رُدُّوهَا" عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا}: يَقُولُ: حَيُّوا أَحْسَنَ مِنْهَا أَيْ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ "أَوْ رُدُّوهَا" أَيْ: عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} قَالَ: قَالَ أَبِي: حَقٌّ عَلَى كُلٍّ مُسْلِمٍ حُيِّيَ بِتَحِيَّةٍ أَنْ يُحَيِّيَ بِأَحْسَنَ مِنْهَا، وَإِذَا حَيَّاهُ غَيْرُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَوَجْهُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا حَيَّاهُ تَحِيَّةً أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِ أَوْ مِثْلَهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الصِّحَاحَ مِنَ الْآثَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ رَدُّ تَحِيَّةِ كُلِّ كَافِرٍ بِأَخَسَّ مِنْ تَحِيَّتِهِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِرَدِّ الْأَحْسَنِ وَالْمِثْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزِ مِنْهُ بَيْنَ الْمُسْتَوْجِبِ رَدَّ الْأَحْسَنِ مِنْ تَحِيَّتِهِ عَلَيْهِ، وَالْمَرْدُودِ عَلَيْهِ مِثْلَهَا بِدَلَالَةٍ يُعْلَمُ بِهَا صِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِرَدِّ الْأَحْسَنِ الْمُسْلِمَ، وَبِرَدِّ الْمِثْلِ أَهْلَ الْكَفْرِ. وَالصَّوَابُ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَلَا صِحَّةِ أَثَرٍ لَازِمٍ عَنِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ: بَيْنَ رَدِّ الْأَحْسَنِ أَوِ الْمِثْلِ، إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي خَصَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَكُونُ مُسَلِّمًا لَهَا. وَقَدْ خَصَّتِ السُّنَّةُ أَهْلَ الْكُفْرِ بِالنَّهْيِ عَنْ رَدِّ الْأَحْسَنِ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ عَلَيْهِمْ أَوْ مِثْلِهَا، إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ: وَعَلَيْكُمْ. فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا حَدَّ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ لِمَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ فِي الرَّدِّ مِنَ الْخِيَارِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا خَبَرٌ. وَذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّرِيِّ الْأَنْطَاكِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ لَاحِقٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ: وَعَلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَتَاكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَسَلَّمَا عَلَيْكَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ! فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيْئًا، قَالَ اللَّهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}: فَرَدَدْنَاهَا عَلَيْك». فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَوَاجِبٌ رَدُّ التَّحِيَّةِ حُكْمُهُ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ إِلَّا يُوجِبُهُ قَوْلُهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: السَّلَامُ: تَطَوُّعُ، وَالرَّدُّ: فَرِيضَةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْنِي بِذَلِكَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَعْمَلُونَ- أَيُّهَا النَّاسُ- مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، حَفِيظًا عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهَا جَزَاءَهُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ "حَسِيبًا" قَالَ: حَفِيظًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَصْلُ "الْحَسِيب" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدِي "فَعِيل" مِنَ "الْحِسَاب" الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْإِحْصَاءُ، يُقَالُ مِنْهُ: حَاسَبْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا وَكَذَا، وَفُلَانٌ حَاسَبَهُ عَلَى كَذَا، وَهُوَ حَسِيبُهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ صَاحِبَ حِسَابِهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّ مَعْنَى الْحَسِيبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَافِي. يُقَالُ مِنْهُ: أَحْسَبَنِي الشَّيْءُ يُحْسِبُنِي إِحْسَابًا بِمَعْنَى كَفَانِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: حَسْبِي كَذَا وَكَذَا. وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الْقَوْلِ وَخَطَأٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي " أَحْسَبَنِي الشَّيْءُ " " أَحْسَبَ عَلَى الشَّيْءِ فَهُوَ حَسِيبٌ عَلَيْهِ "، وَإِنَّمَا يُقَالُ: هُوَ حَسْبُهُ وَحَسِيبُهُ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: "اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُم" الْمَعْبُودَ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعُبُودَةُ إِلَّا لَهُ، هُوَ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ كُلِّ شَيْءٍ وَطَاعَةُ كُلِّ طَائِعٍ. وَقَوْلُهُ: "لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة" يَقُولُ: لَيَبْعَثَنَّكُمْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ وَلَيَحْشُرَنَّكُمْ جَمِيعًا إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ الَّذِي يُجَازِي النَّاسَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَيَقْضِي فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْكُفْرِ. "لَا رَيْبَ فِيه" يَقُولُ: لَا شَكَّ فِي حَقِيقَةِ مَا أَقُولُ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأُخْبِرُكُمْ مِنْ خَبَرِي: أَنِّي جَامِعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا" يَعْنِي بِذَلِكَ: فَاعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَا أُخْبِرُكُمْ مِنَ الْخَبَرِ فَإِنِّي جَامِعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِلْجَزَاءِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَقِينًا، فَلَا تَشُكُّوا فِي صِحَّتِهِ وَلَا تَمْتَرُوا فِي حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ قَوْلِي الصِّدْقُ الَّذِي لَا كَذِبَ فِيهِ، وَوَعْدِي الصِّدْقُ الَّذِي لَا خُلْفَ لَهُ. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}، يَقُولُ: وَأَيُّ نَاطِقٍ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبَ إِنَّمَا يَكْذِبُ لِيَجْتَلِبَ بِكَذِبِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعَ بِهِ عَنْهَا ضَرًّا. وَاللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- خَالِقُ الضَّرِّ وَالنَّفْعِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْعُوهُ إِلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ دَفْعِ ضَرٍّ عَنْهَا دَاعٍ. وَمَا مِنْ أَحَدٍ لَا يَدْعُوهُ دَاعٍ إِلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ دَفْعِ ضَرٍّ عَنْهَا سِوَاهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي اسْتِحَالَةِ الْكَذِبِ مِنْهُ نَظِيرًا، [ فَقَالَ]: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} وَخَبَرًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ"، فَمَا شَأْنُكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي أَهْلِ النِّفَاقِ فِئَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ "وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا"، يَعْنِي بِذَلِكَ: وَاللَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى أَحْكَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فِي إِبَاحَةِ دِمَائِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ. وَ "الإِرْكَاسُ معناه "، الرَّدُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: فَأُرْكِسُـوا فِـي حَـمِيمِ النَّـارِ، إِنَّهُـمُ *** كَـانُوا عُصَـاةً وَقَـالُوا الْإِفْكَ وَالزُّورَا يُقَالُ مِنْهُ: "أَرْكَسَهُمْ" وَ"رَكَسَهُمْ". وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ: (وَاللَّهُ رَكَسَهُمْ)، بِغَيْرِ"أَلِفٍ". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِأَصْحَابِهِ: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 167].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ يُحَدِّثُ، «عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ، رَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً تَقُولُ: "نَقْتُلُهُمْ"، وَفِرْقَةً تَقُولُ: "لَا". فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا} " الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ: إِنَّهَا طَيْبَةٌ، وَإِنَّهَا تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّة». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي زُرَيْقُ بْنُ السَّخْتِ قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: ذَكَرُوا الْمُنَافِقِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فَرِيقٌ: "نَقْتُلُهُمْ"، وَقَالَ فَرِيقٌ: "لَا نَقْتُلُهُمْ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي اخْتِلَافٍ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمٍ كَانُوا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ، فَأَظْهَرُوا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ وَأَظْهَرُوا لَهُمُ الشِّرْكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} "، قَالَ: قَوْمٌ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَتَوُا الْمَدِينَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ، ثُمَّ ارْتَدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ يَتَّجِرُونَ فِيهَا. فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: "هُمْ مُنَافِقُونَ"، وَقَائِلٌ يَقُولُ: "هُمْ مُؤْمِنُونَ". فَبَيَّنَ اللَّهُ نِفَاقَهُمْ فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ، فَجَاءُوا بِبَضَائِعِهِمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَلِيُّ بْنُ عُوَيْمِرٍ، أَوْ: هِلَالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْفٌ وَهُوَ الَّذِي حَصِرَ صَدْرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يُقَاتِلَ قَوْمَهُ، فَدَفَعَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَؤُمُّونَ هِلَالًا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ بِنَحْوِهِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَبَيَّنَ اللَّهُ نِفَاقَهُمْ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ، فَلَمْ يُقَاتِلُوا يَوْمئِذٍ، فَجَاءُوا بِبَضَائِعِهِمْ يُرِيدُونَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِلْفٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا يُعِينُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} "، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ! وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ، قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْخُبَثَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ! وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ _ أَوْ كَمَا قَالُوا _ أَتُقَتِّلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ؟ أَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَيَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، تُسْتَحَلُّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لِذَلِكَ! فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُمْ لَا يَنْهَى وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} "، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} "الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمَا كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَكَانَا قَدْ تَكَلَّمَا بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُهَاجِرَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَهُمَا نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّ اللَّهِ وَهُمَا مُقْبِلَانِ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ دِمَاءَهُمَا وَأَمْوَالَهُمَا حَلَالٌ! وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ! فَتَشَاجَرُوا فِيهِمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}" حَتَّى بَلَغَ" {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَتَبُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَذِبًا، فَلَقُوهُمْ، فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَلَالٌ! وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَرَامٌ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} ". حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، هُمْ نَاسٌ تَخَلَّفُوا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ وَأَعْلَنُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَوَلَّاهُمْ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبَرَّأَ مِنْ وَلَايَتِهِمْ آخَرُونَ، وَقَالُوا: تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا! فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ مُنَافِقِينَ، وَبَرَّأَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَلَايَتِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَوَلَّوْهُمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَوْمٍ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، أَرَادُوا الْخُرُوجَ عَنْهَا نِفَاقًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} "، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنَّا قَدْ أَصَابَنَا أَوْجَاعٌ فِي الْمَدِينَةِ واتَّخَمْنَاهَا، فَلَعَلَّنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى الظَّهْرِ حَتَّى نَتَمَاثَلَ ثُمَّ نَرْجِعُ، فَإِنَّا كُنَّا أَصْحَابَ بَرِّيَّةٍ. فَانْطَلَقُوا، وَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَعْدَاءٌ لِلَّهِ مُنَافِقُونَ! وَدِدْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَنَا فَقَاتَلْنَاهُمْ! وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا، بَلْ إِخْوَانُنَا غَمَّتْهُمُ الْمَدِينَةُ فَاتَّخَمُوهَا، فَخَرَجُوا إِلَى الظَّهْرِ يَتَنَزَّهُونَ، فَإِذَا بَرَءُوا رَجَعُوا. فَقَالَ اللَّهُ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} "، يَقُولُ: مَا لَكَمَ تَكُونُونَ فِيهِمْ فِئَتَيْنِ " {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ أَهْلِ الْإِفْكِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} "، حَتَّى بَلَغَ" {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "، قَالَ: هَذَا فِي شَأْنِ ابْنِ أُبَيٍّ حِينَ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَة بمَا تَكَلَّمَ. وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَ أُنْزِلَتْ: " {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} "، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ" {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: فَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ فِئَتِهِ ! يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِيٍّ ابْنَ سَلُولَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمٍ كَانُوا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} "، أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى دَارِهِ وَمَدِينَتِهِ مِنْ سَائِرِ أَرْضِ الْكُفْرِ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ مُقِيمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الشِّرْكِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضُ هِجْرَةٍ، لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ كَانَ وَطَنُهُ ومُقَامُهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي نَصْبِ قَوْلِهِ: "فِئَتَيْنِ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، كَمَا تَقُولُ: "مَا لَكَ قَائِمًا"، يَعْنِي: مَا لَكَ فِي حَالِ الْقِيَامِ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفِيِّينَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى فِعْلِ"مَا لَكَ"، قَالَ: وَلَا تُبَالِ أَكَانَ الْمَنْصُوبُ فِي"مَا لَكَ" مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً. قَالَ: وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: "مَا لَكَ السَّائِرَ مَعَنَا"، لِأَنَّهُ كَالْفِعْلِ الَّذِي يُنْصَبُ بِـ"كَانَ" وَ"أَظُنُّ" وَمَا أَشْبَهَهُمَا. قَالَ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ صَلَحَتْ فِيهِ"فَعَلَ" وَ"يَفْعَلُ" مِنَ الْمَنْصُوبِ، جَازَ نَصْبُ الْمَعْرِفَةِ مِنْهُ وَالنَّكِرَةُ، كَمَا تَنْصُبُ"كَانَ" وَ"أَظُنُّ"، لِأَنَّهُنَّ نَوَاقِصُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ ظَنَنْتَ أَنَّهُنَّ تَامَّاتٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: "مَا لَكَ قَائِمًا"، "القِيَامُ"، فَهُوَ فِي مَذْهَبِ"كَانَ" وَأَخَوَاتِهَا، وَ"أَظُنُّ" وَصَوَاحِبَاتِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: رَدَّهُمْ، كَمَا قُلْنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا"، رَدَّهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَاللَّهُ أَوْقَعَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا"، يَقُولُ: أَوْقَعَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَضَلَّهُمْ وَأَهْلَكَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: "وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ"، قَالَ: أَهْلَكَهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} "، أَهْلَكَهُمْ بِمَا عَمِلُوا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} "، أَهْلَكَهُمْ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ مَعْنَى ذَلِكَ قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلُ قَوْلِهِ {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ" {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}، أَتُرِيدُونَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ تَهْدُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَتُوَفِّقُوا لِلْإِقْرَارِ بِهِ وَالدُّخُولِ فِيهِ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْهُ، يَعْنِي بِذَلِكَ: مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لِلْإِقْرَارِ بِهِ؟ وَإِنَّمَا هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْفِئَةِ الَّتِي دَافَعَتْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَتَبْغُونَ هِدَايَةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ فَخَذَلَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، بِمُدَافَعَتِكُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ مَنْ أَرَادَ قِتَالَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ "وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا"، يَقُولُ: وَمَنْ خَذَلَهُ عَنْ دِينِهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ وَبِنَبِيهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَضَلَّهُ عَنْهُ"فَلَنْ تَجِدَ لَهُ"، يَا مُحَمَّدُ، "سَبِيلًا"، يَقُولُ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ طَرِيقًا تَهْدِيهِ فِيهَا إِلَى إِدْرَاكِ مَا خَذَلَهُ اللَّهُ [عَنْهُ]، وَلَا مَنْهَجًا يَصِلُ مِنْهُ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ حَرَمَهُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: " {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} "، تَمَنَّى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَنْتُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِيهِمْ فِئَتَانِ أَنْ تَكْفُرُوا فَتَجْحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ رَبِّكُمْ، وَتَصْدِيقَ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"كَمَا كَفَرُوا"، يَقُولُ: كَمَا جَحَدُوا هُمْ ذَلِكَ"فَتَكُونُونَ سَوَاءً"، يَقُولُ: فَتَكُونُونَ كُفَّارًا مِثْلَهُمْ، وَتَسْتَوُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ فِي الشِّرْكِ بِاللَّهِ "فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، يَقُولُ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ وَيُفَارِقُوا أَهْلَهَا الَّذِينَ هُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ، إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهَا"فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، يَعْنِي: فِي ابْتِغَاءِ دِينِ اللَّهِ، وَهُوَ سَبِيلُهُ، فَيَصِيرُوا عِنْدَ ذَلِكَ مِثْلَكُمْ، وَيَكُونُ لَهُمْ حِينَئِذٍ حُكْمُكُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} "، يَقُولُ: حَتَّى يَصْنَعُوا كَمَا صَنَعْتُمْ يَعْنِي الْهِجْرَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِنْ أَدْبَرَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَوَلَّوْا عَنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ "فَخُذُوهُمْ" أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ"وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"، مِنْ بِلَادِهِمْ وَغَيْرِ بِلَادِهِمْ، أَيْنَ أَصَبْتُمُوهُمْ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ "وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيَّا"، يَقُولُ: وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ خَلِيلًا يُوَالِيكُمْ عَلَى أُمُورِكُمْ، وَلَا نَاصِرًا يَنْصُرُكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَإِنَّهُمْ كُفَّارٌ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ. وَهَذَا الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِبَانَةٌ عَنْ صِحَّةِ نِفَاقِ الَّذِينَ اخْتَلَفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَتَحْذِيرٌ لِمَنْ دَافَعَ عَنْهُمْ عَنِ الْمُدَافَعَةِ عَنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} "، فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنِ الْهِجْرَةِ "فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} "، يَقُولُ: إِذَا أَظْهَرُوا كُفْرهمْ، فَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: " {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} "، فَإِنْ تولَّى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اخْتَلَفْتُمْ فِيهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَبَوُا الْهِجْرَةَ فَلَمْ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، سِوَى مَنْ وَصَلَ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مُوَادَعَةٌ وَعَهْدٌ وَمِيثَاقٌ، فَدَخَلُوا فِيهِمْ، وَصَارُوا مِنْهُمْ، وَرَضُوا بِحُكْمِهِمْ، فَإِنَّ لِمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ فَدَخَلَ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ رَاضِيًا بِحُكْمِهِمْ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بِدُخُولِهِ فِيهِمْ: أَنْ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ، وَلَا تُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} "، يَقُولُ: إِذَا أَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ دَخَلَ فِي قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَأَجْرُوا عَلَيْهِ مِثْلَ مَا تُجْرُونَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} "، يَصِلُونَ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ مِنَ الْقَوْمِ، لَهُمْ مِنَ الْأَمَانِ مِثْلَ مَا لِهَؤُلَاءِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: " {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} "، قَالَ نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشَمٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} "، إِلَّا الَّذِينَ يَتَّصِلُونَ فِي أَنْسَابِهِمْ لِقَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، مِنْ قَوْلِهِمُ: "اتَّصَلَ الرَّجُلُ"، بِمَعْنَى: انْتَمَى وَانْتَسَبَ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى فِي صِفَةِ امْرَأَةٍ انْتَسَبَتْ إِلَى قَوْمٍ: إِذَا اتَّصَلَـتْ قَـالَتْ: أَبَكْـرَ بْنَ وَائِلٍ! *** وَبَكْـرٌ سَـبَتْهَا وَالْأُنُـوفُ رَوَاغِـمُ! يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "اتَّصَلَتْ"، انْتَسَبَتْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْمُوَادَعَةِ أَوِ الْعَهْدِ، لَوْ كَانَ يُوجِبُ لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِمْ مَا لَهُمْ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْعَهْدِ وَالْأَمَانِ مَا لَهُمْ، لَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقَاتِلَ قُرَيْشًا وَهُمْ أَنْسِبَاءُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. وَلِأَهْلِ الْإِيمَانِ مِنَ الْحَقِّ بِإِيمَانِهِمْ، أَكْثَرَ مِمَّا لِأَهْلِ الْعَهْدِ بِعَهْدِهِمْ. وَفِي قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِتَرْكِهَا الدُّخُولَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، مَعَ قُرْبِ أَنْسَابِهِمْ مِنْ أَنْسَابِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ- الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ أَنَّ انْتِسَابَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ إِلَى ذِي الْعَهْدِ مِنْهُمْ، لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لَهُ مِنَ الْعَهْدِ مَا لِذِي الْعَهْدِ مِنَ انْتِسَابِهِ. فَإِنْ ظَنَّ ذُو غَفْلَةٍ أَنَّ قِتَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَاتَلَ مِنْ أَنْسِبَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ مَا نُسِخَ قَوْلُهُ: "إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ"، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَاسِخَ ذَلِكَ"بَرَاءَةُ"، وَ"بَرَاءَةُ" نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِ قُرَيْشٍ فِي الْإِسْلَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: " {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} "، " {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} "" {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}" أَوْ: إِلَّا الَّذِينَ جَاءُوكُمْ مِنْهُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ فَدَخَلُوا فِيكُمْ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ"، ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلٍّ مَنْ ضَاقَتْ نَفْسُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ فِعْلٍ أَوْ كَلَامٍ: "قَدْ حَصِرَ"، وَمِنْهُ "الحَصَرُ" فِي الْقِرَاءَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} "، يَقُولُ: رَجَعُوا فَدَخَلُوا فِيكُمْ" {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} "، يَقُولُ: ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ" {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} ". وَفِي قَوْلِهِ: " {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} "، مَتْرُوكٌ، تُرِكَ ذِكْرُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَوْ جَاءُوكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، فَتَرَكَ ذِكْرَ"قَدْ"، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِعْلَ مِثْلَ ذَلِكَ: تَقُولُ: "أَتَانِي فُلَانٌ ذَهَبَ عَقْلُهُ"، بِمَعْنَى: قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ. وَمَسْمُوعٌ مِنْهُمْ: "أَصْبَحْتُ نَظَرْتُ إِلَى ذَاتِ التَّنَانِيرِ"، بِمَعْنَى: قَدْ نَظَرْتُ. وَلِإِضْمَارِ"قَدْ" مَعَ الْمَاضِي، جَازَ وَضْعُ الْمَاضِي مِنَ الْأَفْعَالِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ"قَدْ" إِذَا دَخَلَتْ مَعَهُ أَدْنَتْهُ مِنَ الْحَالِ، وَأَشْبَهَتِ الْأَسْمَاءَ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَعْنِي"حَصِرَتْ"، قِرَاءَةُ الْقَرَأَةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، وَبِهَا يُقْرَأُ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ}، نَصْبًا، وَهِيَ صَحِيحَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَصِيحَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ الْقِرَاءَةُ بِهَا عِنْدِي، لِشُذُوذِهَا وَخُرُوجِهَا عَنْ قِرَاءَةِ قَرَأَةِ الْإِسْلَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} "، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَيَدْخُلُونَ فِي جِوَارِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ، وَالَّذِينَ يَجِيئُونَكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَقِتَالِ قَوْمِهِمْ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَقَاتَلُوكُمْ مَعَ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَفَّهُمْ عَنْكُمْ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَطِيعُوا الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِكَفِّهِمْ عَنْكُمْ مَعَ سَائِرِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْكَفِّ عَنْهُمْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَقِتَالِ قَوْمِهِمْ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: " {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} "، يَقُولُ: فَإِنِ اعْتَزَلَكُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكُمْ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بِدُخُولِهِمْ فِي أَهْلِ عَهْدِكُمْ، أَوْ مَصِيرِهِمْ إِلَيْكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَقِتَالِ قَوْمِهِمْ" {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} "، يَقُولُ: وَصَالَحُوكُمْ. وَ "السَّلَمُمَعْنَاهُ "، هُوَ الِاسْتِسْلَامُ. وَإِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: "أَعْطَيْتُكَ قِيَادِي"، وَ"أَلْقَيْتُ إِلَيْكَ خِطَامِي"، إِذَا اسْتَسْلَمَ لَهُ وَانْقَادَ لِأَمْرِهِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ"، إِنَّمَا هُوَ: أَلْقَوْا إِلَيْكُمْ قِيَادَهُمْ وَاسْتَسْلَمُوا لَكُمْ، صُلْحًا مِنْهُمْ لَكُمْ وَسَلَمًا. وَمِنَ "السَّلَمِ" قَوْلُ الطِّرِمَّاحِ: وَذَاكَ أَنَّ تَمِيمًـا غَـادَرَتْ سَـلَمًا *** لِلْأُسْـدِ كُـلَّ حَصَـانٍ وَعْثَـةِ اللِّبَـدِ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "سَلَمًا"، اسْتِسْلَامًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: " {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} "، قَالَ: الصُّلْحُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} "، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِذَا اسْتَسْلَمَ لَكُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ، صُلْحًا مِنْهُمْ لَكُمْ"فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا"، أَيْ: فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ طَرِيقًا إِلَى قَتْلٍ أَوْ سِبَاءٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، بِإِبَاحَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ لَكُمْ وَلَا إِذْنٍ، فَلَا تَعَرَّضُوا لَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا سَبِيلَ خَيْرٍ ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ جَمِيعَ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 5]. ذِكْرُ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ مِثْلَ الَّذِي قُلْنَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ قَالَا: قَالَ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} وَقَالَ فِي "المُمْتَحِنَةِ": {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وَقَالَ فِيهَا: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} إِلَى {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ: 8، 9]. فَنَسَخَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَةِ فِي شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 1، 2]. فَجَعَلَ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ، وَأَبْطَلَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي الَّتِي تَلِيهَا: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}، ثُمَّ نَسَخَ وَاسْتَثْنَى فَقَالَ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 5، 6]. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} "، قَالَ: نَسَخَتْهَا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ: يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} " إِلَى قَوْلِهِ: " {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} "، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بَعْدُ فِي بَرَاءَةَ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} "، الْآيَةَ، قَالَ: نُسِخَ هَذَا كُلُّهُ أَجْمَعُ، نَسَخَهُ الْجِهَادُ، ضُرِبَ لَهُمْ أَجَلٌ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ: إِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لِيَأْمَنُوا بِهِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَهُمْ كُفَّارٌ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَوْمُهُمْ، إِذَا لَقُوهُمْ كَانُوا مَعَهُمْ وَعَبَدُوا مَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِيَأْمَنُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ: " {كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} "، يَعْنِي: كُلَّمَا دَعَاهُمْ [قَوْمُهُمْ] إِلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ، ارْتَدُّوا فَصَارُوا مُشْرِكِينَ مِثْلَهُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَوْا بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ نَاسٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا-عَلَى مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّقِيَّةِ- وَهُمْ كُفَّارٌ، لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ: "كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا"، يَعْنِي كُلَّمَا دَعَاهُمْ [قَوْمُهُمْ] إِلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ، ارْتَدُّوا فَصَارُوا مُشْرِكِينَ مِثْلَهُمْ، لِيَأْمَنُوا عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} "، قَالَ: نَاسٌ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْلِمُونَ رِيَاءً، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَهُنَا وَهَهُنَا. فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيُصْلِحُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} "، يَقُولُ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ فِتْنَةٍ أُرْكِسُوا فِيهَا. وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُوجَدُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَيُقَرَّبُ إِلَى الْعُودِ وَالْحَجَرِ وَإِلَى الْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ لِذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ بِالْإِسْلَامِ: "قُلْ: هَذَا رُبِّيَ"، لِلْخُنْفُسَاءِ وَالْعَقْرَبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا طَلَبُوا الْأَمَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَأْمَنُوا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ وَعِنْدَ الْمُشْرِكِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} "، قَالَ: حَيٌّ كَانُوا بِتِهَامَةَ، قَالُوا: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا نُقَاتِلُكَ وَلَا نُقَاتِلُ قَوْمَنَا"، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْمَنُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، فَأَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: " {كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} "، يَقُولُ: كُلَّمَا عَرَضَ لَهُمْ بَلَاءٌ هَلَكُوا فِيهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيَّ وَكَانَ يَأْمَنُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، يَنْقُلُ الْحَدِيثَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: " {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ} "، يَقُولُ: إِلَى الشِّرْكِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: "كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا"، فَإِنَّهُ كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: " {كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} "، قَالَ: كُلَّمَا ابْتُلُوا بِهَا، عَمُوا فِيهَا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: كُلَّمَا عَرَضَ لَهُمْ بَلَاءٌ، هَلَكُوا فِيهِ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ بَيَّنْتُ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ "الفِتْنَةَ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، الِاخْتِبَارُ، وَ "الإِرْكَاسَ" الرُّجُوعُ.. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الِاخْتِبَارِ لِيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، رَجَعُوا إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، وَهُمْ كُلَّمَا دُعُوا إِلَى الشِّرْكِ أَجَابُوا إِلَيْهِ "وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ"، وَلَمْ يَسْتَسْلِمُوا إِلَيْكُمْ فَيُعْطُوكُمُ الْمُقَادَ وَيُصَالِحُوكُمْ،. كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: " {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} "، قَالَ: الصُّلْحُ. "وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ"، يَقُولُ: وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ، "فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ"، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوهُمْ أَيْنَ أَصَبْتُمُوهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَقِيتُمُوهُمْ فِيهَا، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ دِمَاءَهُمْ لَكُمْ حِينَئِذٍ حَلَالٌ"وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا"، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرَانِ، وَلَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ، جَعَلْنَا لَكُمْ حُجَّةً فِي قَتْلِهِمْ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ، بِمَقَامِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَرْكِهِمْ هِجْرَةَ دَارِ الشِّرْكِ "مُبِينًا" يَعْنِي: أَنَّهَا تُبَيِّنُ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ مِنْكُمْ، وَإِصَابَتِكُمُ الْحَقَّ فِي قَتْلِهِمْ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "سُلْطَانًا مُبِينًا"، وَ "السُّلْطَانُ" هُوَ الْحُجَّةُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ"سُلْطَانٍ"، فَهُوَ: حُجَّةٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {سُلْطَانًا مُبِينًا} " أَمَّا "السُّلْطَانُ الْمُبِينُ"، فَهُوَ الْحُجَّةُ.
|